من مقال: ويل لأمة مغصوبة اللسان!
للأستاذ فهمى هويدى
(منقول بتصرف)
لقد كتبت في موضوع أزمة اللغة العربية في بلادها منذ ثلاثة أسابيع منبها إلي أنها من علامات انكسار الأمة, واستشهدت في ذلك بمقولة بليغة لابن حزم نبه فيها إلي أن اللغة يسقط أكثرها بسقوط همة أهلها, الأمر الذي يعني أن محنتنا ـ في عمقها ـ ليست في عثرات اللسان, وإنما هي في اعوجاج عموم الحال. قلت أيضا إن الدفاع عن اللغة الوطنية هو دفاع عن الذات, وأن احترامها هو احترام للذات, وانتهاك حرمتها من أعمال احتقار الذات.
لقد أصبحت الأخطاء النحوية من سمات الخطاب الإعلامي في زماننا, وصارت لدينا برامج تحمل أسماء أجنبية, ومسلسلات حافلة بالعبارات المسفة التي تنتقل إلي ألسنة الناس, يتم تعميمها وتداولها علي أرصفة الشوارع, وأصبحت العامية المبتذلة لغة للكتابة في بعض الصحف, حتي لم يعد هناك فرق بين ما تنشره تلك الصحف وما يتم تداوله في الأزقة وعلي المقاهي( زمان كان الكاتب يسمي أديبا!).
لقد أصبحت إعلانات الصحف تجسد المأساة, وصار بعضها مستفزا ومثيرا للغثيان. ففضلا عن الأخطاء النحوية الفاضحة التي تظهر في إعلانات مؤسسات كبري عريقة, البنك الأهلي المصري مثلا, فإن العامية السوقية تسربت إليها. ففضلا عن الإيحاءات المبتذلة التي تشبه تلك التي يطعم بها بعض المخرجين أفلام ومسرحيات القطاع الخاص, وليس بمقدوري هنا أن أعرض نماذج لتلك الإعلانات البذيئة التي تنشرها صحف محترمة للأسف, لكن هناك إعلانات أخري يحتمل المقام والسياق نشر بعض فقرات منها, إذ تقول مثلا: عاوز تجرب الشاورمة اللي تجنني.. وبعد كده تقعد وتنبسط وانت بتشرب الشيشة المتميزة؟ شرفنا بالزيارة في المطعم الفلاني! لو عاوز محل مالوش حل( إعلان في سوق جديد) يخللي الدنيا ترقص حواليك, والنوم ما يعرفش عينيك( إعلان في تليفزيون), تحت صورة يقف فيها شاب وسط ست فتيات مراهقات كتبت العبارة التالية: للأسف ما تشيلش أكثر من6.. وفي ركن جانبي من الإعلان ظهرت عبارة أخري تقول: خللي الشباب يهيص!( إعلان عن سيارة صغيرة جديدة تضمن دعوة إلي ممارسة الفعل الفاضح!).
إن الإعلام بحاجة ملحة لأن يراجع خطابه احتراما لرسالته, وللغة التي ينطق بها.
يؤثرني الشاعر الجزائري الشهير مالك حداد قوله: أنا المنفي في اللغة الفرنسية, لأن لسانه العربي قطع منذ صغره وفرض عليه المستعمرون لغتهم الفرنسية, وحينما كتب الأديب الفرنسي لوي آراجون في الخمسينيات أن أعذب شعر قرأه هو ما نظمه مالك حداد, فإنه رد عليه قائلا: أنا أرطن ولا أتكلم, إنني معقود اللسان, نعم يا آراجون إنني لا أغني, ولو كنت أعرف الغناء لقلت شعرا عربيا.. وهذه مأساة لغتي. لقد شاء الإنسان أن يكون في لساني آفة.. في لساني عاهة.. لا تلمني يا صديقي إذا لم يطربك صداحي.. لقد كنت في طفولتي أنادي أمي: ياما.. أما في شعري فأقول عنها: مامير.. أماه, ياما, هل يمكن أن يكون اسمك مامير؟!
* إن مؤلف كتاب الاسلام الحربي ـ العالم الإنجليزي ج. جانسن ـ تحدث عن أهمية دور الفصل الدراس في تمتين وثبات الشخصية العربية. وقال: إن الدراسات التي أجراها الإنجليز والفرنسيون في بداية القرن حول هذا الموضوع لاحظت أن تعليم الطفل العربي له دوره في تعزيز تماسكه وصلابته. ففي طفولته المبكرة ؟؟؟؟ كان يتعلم( في الكتاتيب التي سخر منها أصحابنا!) القراءة والكتابة ويختم حفظ القرآن, الذي يحتوي علي أهم وأفصح التراكيب اللغوية, فيتقنها ولم يزد عمره علي السادسة. ثم يستكمل إتقانه للغته فيما بعد لدي تعلمه قواعد نحوها وصرفها وترسخها في ذهنه بحفظ ألفية ابن مالك, وبذلك يتفوق الطفل العربي علي غيره بعد ذلك التأسيس, الذي ينطلق بعده لينهل من بحور العلم, فيكون له شأن آخر. لذلك ـ أضاف الدكتور محمود قاسم ـ فقد كان أهم ما عني به الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي ـ لتثبيت أقدامهما ـ هو تفكيك المنظومة التعليمية في العالم العربي والإسلامي.
إن البعض يريد أن يشوه لساننا العربي أو يقطعه, وتلك من علامات الساعة الثقافية والحضارية, إذا جاز التعبير.
ويل لأمة اغتصب لسانها واستسلمت لما يفعل به!
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment